الانتحار بين الواقع والشريعة

الانتحار بين الواقع والشريعة

  • - عندما وهبنا الله تعالى هذه الرّوح كان المُراد التكريم بنفحة ربّانية، وكان خير ترجمان لشكر التكريم أن يكون لهذه الروح خير أثر في الحياة الدنيوية، هذه الروح التي سمَتْ لتلامس صفاء السماوات، لا يليق لها أن تحشر نفسها في عنق زجاجة وتستسلم للترهات
  • - تلك الرّوح هبة الله وعطر منحه لعباده كي يُبثّ عبقه في الأرجاء، لا لنكسر الزجاجة التي تحتويه ونريق العطر على الأرض هباء.
  • - الانتحار كلمة لم تكن واردة من قبل في المجتمع الإسلامي، ولكنّها حديثاً باتت تُشاع بين أفراد هذا الجيل وكأنّها شيء عادي فما إن نسمع بأنّ أحدهم قد أقدم على الانتحار حتى تتهافت جميع الأراء لتدلي بدلوها بين مسلم (كيوت) متعاطف يرمي كلّ حنقه على المجتمع ويتعاطف مع المنتحِر معتبراً إيّاه ضحيّة هذا المجتمع، وبين مهاجم للمنتحِر وبين مناقش في مآله هل إلى الجنّة أم إلى النّار.
  • - والحقيقة بدون أي تجميل أنّ المنتحر ليس إلا ضحيّة نفسه، لا شكّ أنّ في حياة كلّ شخص ظروف معيّنة أو أمراض نفسية محدّدة قد تدفعه أحياناً للحزن أو تدفعه لأن يُسقط في يده ولكن تأتي القاعدة الرّوحية لتثبّت أركان بنيان الجسد لئلا نلقاه مع كلّ عاصفة قد طار.
  • - والعلاج لا يكون بالنقاش بعد أن يسبق السيف العذل وإنّما يكون بالانتباه للشخص وهو لا يزال على قيد الحياة، بحيث يتم معالجة الأمر قبل أن يفوت الأوان وإلا كلّ ما يأتي بعد ذلك فهو عبارة عن كلام لا جدوى منه ولا طائل من طرحه.
  • لذلك يجب أن نغوص في الانتحار ونعرف أسبابه وطريقة علاجه وحكمه في الشريعة
  • تعريف الانتحار:
  • - وفق منظّمة الصحة العالمية يعرّف بأنّه "القتل العمدي للنفس"، ويتكون السلوك الانتحاري من عدة خطوات تشمل التفكير في الانتحار ثم التخطيط له ثم التنفيذ الذي قد يؤدى إلى الوفاة أو لا يؤدي.
  • - وحسب إحصاءات منظمّة الصحّة العالمية فإن هناك شخص يقوم بالانتحار كل 40 ثانية، هذا الرقم الذي لا يكاد يصدّقه العقل، فكيف يكون إنهاء الحياة قراراً يُتّخذ بسهولة!
  • - لذا يجب أن نعرف الأسباب التي تتوارى خلف هذا القرار لنقوم بمعالجتها منذ البداية.
  • أسباب الانتحار:
  • - هناك عدّة أسباب تختبئ وراء ظاهرة الانتحار:
  • أ- المشاكل النفسية:
  • - قد تُسهم بعض الاضطرابات النفسية الشائعة أو المزمنة في التفكير بالانتحار، ونتطرق للاضطرابات النفسية التي تؤدي إلى الانتحار، فيما يلي:
  • - الاكتئاب:
  • - قد يُصاب بعض الأشخاص بالاكتئاب، أو الاكتئاب الحاد، أو الهوس الاكتئابي، أو الهوس الوجداني، وتقلُب المزاج والتخبط والشعور باليأس وفُقدان الأمل والابتعاد عن ممارسة المهام والأنشطة، يجعلهم أكثر عُرضة للتفكير بالانتحار.
  • - الفصام:
  • - تبدو أعراضه على المريض بأنه لا يعكس انفعالاته على وجهه أو يعكسها بشكل غير ملائم، وكذلك الهلوسة السمعية، واضطرابات الفكر والأعراض السلبية، في صورة سماع المريض أصوات توجه له الإساءة أو الذم بشكل مباشر، أو تتحدث مع بعضها البعض، أو وجود صور أو أطياف تمر أمامه غيرها، والتي مآلها إلى التفكير في الانتحار.
  • - اضطراب الشخصية الحدية:
  • - يوصف هذا الشخص بأن مشاعره غير مستقرة، وأفكاره غير متسقة، وأنماطه السلوكية غير متزنة، وقد يكون تعرض في مرحلة الطفولة لاعتداء ما أو حادث عنف، لذا يكون أكثر عُرضة للانتحار.
  • - اضطرابات الأكل:
  • - فيما يُعرف بفقدان الشهية العصبي، حيث يشعر المريض بمعاناته الشديدة من السمنة، وعند الاتجاه لخفض وزنه، لا يستطيع التخلص من ذلك بشتى الطرق، لذا يختار طريقة الانتحار للتخلص من هذه المشكلة المزمنة التي يُعاني منها.
  • - أمراض أخرى:
  • - قد يُعاني بعض الاشخاص من اضطرابات نفسية وعقلية أخرى، تؤدي للانتحار، مثل اضطراب ما بعد الصدمة، اضطراب القلق العام، اضطراب التكيف، اضطراب ثنائي القطب، واضطراب تشوه الجسم.
  • ب- العزلة الاجتماعية والشعور بالوحدة:
  • - لأنّ الشخص المنعزل اجتماعياً عادة ما يكون سلبي وبمزاج سيء معظم الوقت، لذلك يكون هذا الشخص أكثر عرضة للإصابة بمشاكل نفسية قد تدفعه للانتحار وقد يلجأ لذلك أحياناً لجلب الانتباه أو لإثبات كيانه.
  • بأن يدمن الشخص على الكحول أو المخدرات لفترة طويلة من الزمن، فالمدمنون عادة يدخلون في الاكتئاب ويفكرون بالانتحار وخاصّة إن لم يجدوا المال لشراء هذه المواد.
  • د- المرور بتجارب مؤلمة:
  • - من تسلّط أو وفاة أحد المقربين أو خذلان أو حرب أو وضع مادّي سيّء
  • - مناقشة ما سبق من وجهة نظر الشريعة الإسلامية:
  • - لكلّ ظاهرة هناك أصل وهذا الأصل تعطينا مفتاحه الشريعة قبل أن يتحوّل الثقب إلى فجوة والشرخ إلى هوّة
  • - يعني لا يُنكر أحد أنّ هناك علم نفسي وجسديّ قائم لمعالجة هذه الأمور، ولكن لولا ظهورها لما احتجنا لهذا العلم، والحلّ دوماً يكمن في تعقيم الروح وتهيئتها قبل أن تتعرّض لفيروسات المجتمع بحيث تكتسب حصانة كاملة من كلّ ما قد يصادفها والمؤمن الحقّ خُلق ليكون بلسماً متنقّلاً لا مرضاً وهمّاً وثقلاً على الأمّة.
  • - المشاكل النفسية: السبب الأساسي بعيداً عن الحالات الطبيّة التي ينبغي علاجها يُبنى على ضعف الأساس الرّوحي، فمثلاً إن ناقشنا أي حالة من هذه الحالات سنجد لها ميزاناً في الشريعة يحدّ من ظهورها
  • - فالمؤمن إنسان متوازن يعرف ما له وما عليه، لا شكّ أنّه قد تعتريه لحظات وهن أو تعب أو حزن، ولكن له مأوى فسيح كلّما ضاقت عليه الحياة وركن ثابت كلّما تزلزلت أركانه وهو الله تعالى.
  • - لذلك مُحال أن يكون الإنسان ملتزماً بألف باء الشريعة منذ ولادته ثمّ يتعرّض لهاجس الانتحار
  • - وتقيّده منذ الولادة لا يقع على عاتقه وحده بل يقع على عاتق الأسرة والمدرسة والبيئة المحيطة به، الإنسان هو حصيلة ما يتمّ غرسه به منذ نعومة أظفاره، وبناء عليه يكون اتجاهه في الحياة.
  • - فالأمراض النفسية لابدّ في النهاية تعود لأحد هذه الأركان التي ذكرناها من أسرة ومدرسة ومجتمع وبيئة محيطة.
  • - العزلة الاجتماعية والشعور بالوحدة: ورد في السّنة النبوية الشريفة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (المُؤْمِنُ يَأْلَفُ ويُؤْلَفُ، ولا خيرَ فيمَن لا يَأْلَفُ ولا يُؤْلَفُ، وخيرُ النَّاسِ أَنفَعُهُم للنَّاسِ.) [ورد في السلسلة الصحيحة بإسناد حسن]
  • - الإدمان: قال الله تعالى في كتابه الكريم: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [سورة البقرة: 195]
  • - المرور بالتجارب المؤلمة: ورد في السّنة النبوية، عن صهيب بن سنان رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له.) [صحيح مسلم]
  • - حكم الانتحار في الشريعة الإسلامية:
  • - الانتحار حرام شرعاً وهو منكر وكبيرة من كبائر الذّنوب
  • - ورد في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل ظاهره على خلود قاتل نفسه في النار وحرمانه من الجنة.
  • - منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللهﷺ: (من قتلَ نفسَه بحديدةٍ فحديدتُه في يدِه يَجَأُ بِها في بطنِه في نارِ جَهنَّمَ خالِدًا مُخلَّدًا فيها أبدًا، ومن قتلَ نفسَه بسمٍّ فسمُّهُ في يدِه يتحسَّاهُ في نارِ جَهنَّمَ خالدًا مُخلَّدًا فيها أبدًا، ومن تردَّى من جبلٍ فقتلَ نفسَه فَهوَ يتردَّى في نارِ جَهنَّمَ خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا) [صحيح الترمذي-حديث صحيح]
  • - وهذه العقوبة هي العقوبة الأخروية، والحاكم فيها هو الله عز وجل.
  • - أما في المعاملات الدنيوية: فلم يقل بكفر المنتحر أحدٌ من علماء المذاهب الأربعة؛ لأن الكفر هو الإنكار والخروج عن دين الإسلام، وصاحب الكبيرة -غير الشرك- لا يخرج عن الإسلام عند أهل السنة والجماعة، ولهذا قالوا بغسله والصلاة عليه وتكفينه ودفنه في مقابر المسلمين.
  • - دليل تحريم الانتحار في الشريعة الإسلامية:
  • - في حدود الشريعة لا يوجد مُحاباة ولا تجمّل، الحقّ حقّ والباطل باطل، لا مجال للنقاش.
  • - لذلك إن أمعنّا النظر في الشريعة وجدنا الجواب دون أن ننصّب أنفسنا قضاة ونحاول أن نظهر بمظهر الشخص (الكيوت)
  • - المسلم (الكيوت) الذي يظهر فجأة عند قضيّة شرعيّة واضحة ليته يظهر بالتعامل مع الشخص المريض بهاجس الانتحار قبل أن يُقدم على الانتحار بتعريفه بالصّواب وباحتواءه.
  • - مع العلم أنّ المتظاهر باللطف المبتذل ليس على معرفة بما ورد في الشريعة، فالخطوط واضحة والحدود ناصعة.
  • - قال الله تعالى في كتابه الكريم: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [سورة النّساء: 29]
  • - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (من قتلَ نفسَه بحديدةٍ فحديدتُه في يدِه يَجَأُ بِها في بطنِه في نارِ جَهنَّمَ خالِدًا مُخلَّدًا فيها أبدًا، ومن قتلَ نفسَه بسمٍّ فسمُّهُ في يدِه يتحسَّاهُ في نارِ جَهنَّمَ خالدًا مُخلَّدًا فيها أبدًا، ومن تردَّى من جبلٍ فقتلَ نفسَه فَهوَ يتردَّى في نارِ جَهنَّمَ خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا) [صحيح الترمذي-حديث صحيح]
  • - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: شَهِدْنا مع رَسولِ اللهِ ﷺ حُنَيْنًا، فقالَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ يُدْعَى بالإِسْلامِ: هذا مِن أهْلِ النَّارِ، فَلَمَّا حَضَرْنا القِتالَ قاتَلَ الرَّجُلُ قِتالًا شَدِيدًا، فأصابَتْهُ جِراحَةٌ، فقِيلَ: يا رَسولَ اللهِ، الرَّجُلُ الَّذي قُلْتَ له آنِفًا: إنَّه مِن أهْلِ النَّارِ فإنَّه قاتَلَ اليومَ قِتالًا شَدِيدًا، وقدْ ماتَ، فقالَ النبيُّ ﷺ: (إلى النَّارِ)، فَكادَ بَعْضُ المُسْلِمِينَ أنْ يَرْتابَ، فَبيْنَما هُمْ علَى ذلكَ إذْ قيلَ: إنَّه لَمْ يَمُتْ، ولَكِنَّ به جِراحًا شَدِيدًا، فَلَمَّا كانَ مِنَ اللَّيْلِ لَمْ يَصْبِرْ علَى الجِراحِ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَأُخْبِرَ النبيُّ ﷺ بذلكَ، فقالَ: (اللَّهُ أكْبُرُ، أشْهَدُ أنِّي عبدُ اللهِ ورَسولُهُ)، ثُمَّ أمَرَ بلالًا فَنادَى في النَّاسِ: (أنَّه لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ إلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وأنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هذا الدِّينَ بالرَّجُلِ الفاجِرِ.) [صحيح مسلم]
  • - الحكمة من تحريم الانتحار:
  • - أجمع علماءُ الإسلام على أن الشريعة الإسلامية جاءت لتحقيق المصالح ودرء المفاسد، ومن جملة المصالح ما سماه العلماء: (الضروراتُ الخمس)، وهي: (حفظُ النفس، وحفظُ الدين، وحفظُ العقل، وحفظُ العِرْض، وحفظُ المال).
  • - والانتحار هو تجاوز لضرورة حفظ النّفس لأ ن الإنسان ملك لخالقه ومولاه، فقد وهبه الله الروح والجسد وأمر الملائكة بالسجود له، وانزله إلى الأرض ليعمرها، ويكون خليفة الله فيها.
  • - فلا يجوز للمسلم قتل نفسه فجسمه امانة ائتمنه الله عليها ولا يجوز اتلاف الجسم؛ لأنه لا يجوز العبث بالأمانة.
  • - هل الإنسان مخيّر في اختيار قرار إنهاء حياته؟
  • - من المعلوم أنّه يمكن للإنسان أن يختار في حياته أشياء، وله حرية في أن يختار ما يأكل أو يشرب أو يلبس، أو يفعل أو يترك، لكن من المؤكد أن هناك قيود لهذه الحرية، وأن هذا الاختيار لا يتجاوز حدود الممكن، بدليل الواقع، فهو لم يوجِد نفسه، ولا يملك أمر الموت والحياة، فليس بمقدوره أن يقرر متى سيولد، أو كم سيعيش، ولا أن يدفع عن نفسه الموت، إلى غير ذلك، مما هو عاجز عنه، فهو بلا شك مفتقر إلى الآخرين، في الوجود والحياة، فليس له أن يخرق القوانين، ولا أن يتعدى على الغير، فحريته تستلزم احترام حقوق الآخرين.
  • - وكونه لم يوجد نفسه، يستلزم افتقاره إلى الخالق الذي أوجده، ووهب له الحياة، وهو الله خالق كل شيء، فالنفس ملك لله، وقتل الإنسان نفسه تجاوز لحدود الاختيار الذي منحه الله له، واعتبار الانتحار معصية لله، بعني: أن مفهوم الحرية الشخصية، لا يخرج عن كون الشخص عبداً مملوكا لله، وليس له مطلق الحرية.
  • الخاتمة:
  • - الحياة لا تعدو أن تكون مجرّد رحلة، وهذه الرحلة مؤقّتة مهما طالت، فإن كنت عزيزي القارئ قد ضقت ذرعاً من شيء يثقل كاهلك أو ضاقت عليك الحلول، فلا تنسَ أنّ الضعيف يلجأ للقويّ والقادر ولا قويّ وقادر قدرة مطلقة إلا الله تعالى، فهو القادر على تغيير الحال وتقليب القلب ومداواتك فاستعن بالله ولا تعجز.
  • - واستحضر علّة وجودك الأساسية وتذكّر لم تصفو الدنيا لأنبياء الله تعالى حتى تصفو لأحدنا، فليرى الله تعالى منك خيراً.
  • - وأخيراً: إن كان لديك أي اقتراح أو ملاحظة أو إضافة أو تصحيح خطأ على المقال يرجى التواصل معنا عبر الإيميل التالي: Info@Methaal.com
    لا تنس عزيزي القارئ مشاركة المقال على مواقع التواصل الاجتماعي لتعم الفائدة.
    ودمتم بكل خير.