هل يعتبر الفقيه ورقة رابحة في أيدي سلطان العصر العباسي؟

هل يعتبر الفقيه ورقة رابحة في أيدي سلطان العصر العباسي؟

  • مقدمة :


  • أضحت حياة الفقيه ورزقه ومطامحه في أيدي أولئك الذين يملكون أمر التعيين للمناصب والوظائف المتاحة للفقهاء ، ألا وهم الخلفاء والوزراء والأمراء والسلاطين والولاة ... 
  • فإن كان علماء الدين قد نالوا من الحكام قدراً عظيماً من الإعتراف بهم كطبقة متميزة من طبقات الأمة ، فقد جاء ضعف مرکزهم نتيجة لحقيقة واقعة وهي : 
  • أن كافة المناصب التي يتطلعون إليها والتي يؤهلهم لشغلها علمهم وثقافتهم كانت في يد الحكام ، لا يصلون إليها إلا عن طريقهم ، ولا سبيل إلى الترقي في سلمها إلا بإقامة صلات طيبة بهم .
  • - دلالات محنة خلق القرآن :


  • تدلنا محنة خلق القرآن التي بدأها المأمون واستمرت في عهدي المعتصم والواثق ، على أن طبقة الفقهاء لم يكن في وسعها مقاومة السلطان . 
  • وكانت النتيجة أن بدأنا نلمس خضوعاً وإذعاناً كاملين جانب هؤلاء ، وأن سبيل بعض الفقهاء صار التهالك على أصحاب السلطة وقلقهم والإستجابة لرغباتهم ، ثم التعادي فيما بينهم تعادي موظفي الحكومة في أيامنا هذه ، إن ظهر من بينهم من كان أحرص على رضاء الله منه على رضاء من سلطان اغتابوه وتنقصوه حتى ينبذه السلطان فيحل أحدهم مكانه . 
  • فإن كانت الظروف قد سمحت في بعض الأحايين بأن يقوم الفقهاء بعمل جماعي ضد السلطة ، أو بأن يظهر في العالم الإسلامي فقيه عظيم الجرأة والشجاعة کأحمد بن حنبل أو ابن تيمية ، فقد كان هذا أمراً استثنائياً مخالفاً للقاعدة .
  • - رأي ابن الجوزي يطرحه في كتابه تلبيس ابليس :


  • يقول ابن الجوزي : ( ومن تلبيس إبليس على الفقهاء مخالطتهم الأمراء والسلاطين ومداهنتهم وترك الإنكار عليهم مع القدرة على ذلك ، وربما رخصوا لهم فيما لا رخصة لهم فيه ، لينالوا من دنیاهم عرضاً ، فيقع بذلك الفساد لثلاثة أوجه : 
  • الأول _ الأمير يقول : لولا أني على صواب لأنكر علي الفقيه ، وكيف لا أكون مصيباً وهز يأكل من مالي ؟.. والثاني _ العامي يقول : لا بأس بهذا الأمير ولا بماله ولا بأفعاله فإن فلاناً الفقيه لا يبرح عنده ... 
  • والثالث _ الفقيه ، فإنه يفسد دينه بذلك ..
  • وفي الجملة فالدخول على السلاطين فيه خطر عظيم ، لأن النية قد تحسن في أول الدخول ، ثم تتغير بإكرامهم و إنعامهم أو بالطمع فيهم ، ولا يتماسك عن مداهنتهم وترك الإنكار عليهم . 
  • وقد كان علماء السلف يبعدون عن الأمراء لما يظهر من جورهم ، فتطلبهم الأمراء لحاجتهم إليهم في الفتاوي والولايات ... 
  • فنشأ أقوام قویت رغبتهم في الدنيا فتعلموا العلوم التي تصلح للأمراء ، وحملوها إليهم لينالوا من دنياهم . ويدلك على أنهم قصدوا بالعلوم الأمراء أن الأمراء كانوا قدها يميلون إلى سماع الحجج في الأصول ، فأظهر الناس علم الكلام ، ثم مال بعض الأمراء إلى المناظرة في الفقه ، فقال الناس إلى الجدل ، ثم مال بعض الأمراء إلى المواعظ ، فمال خلق كثير من المتعلمين إليها ، قال ابن عقیل : رأيت فقيهاً خراسانياً عليه حریر وخواتم ذهب ، فقلت له : ما هذا ؟ قال : خلع السلطان وكمد الأعداء , فقلت : بل هو شماتة الأعداء بك إن كنت مسلماً ، خلع عليك السلطان فانخلعت به من الإيمان ، رماكم الله بخزيه حيث هونتم أمره ) ..
  • - خوف الفقهاء من إكرام الملوك لهم :


  • وكان سفيان الثوري يقول : ( ما أخاف من إهانة الأمراء لي ، إنما أخاف من إكرامهم فيميل قلبي إليهم ) ، ولعل من أشهر القصص في هذا الباب ، ومن أولها ما يحكي عن القاضي أبي يوسف ، أحد مؤسسي المذهب الذي عده الناس المثال الأول للفقيه الذي لا يتقيد بمبدأ ، فيستطيع أن يجد السبيل الميسرة للخروج من مشكلة فقهية ، وقد تمكن أبو يوسف من أن يجعل هارون الرشید عاجزاً عن الإستغناء عنه بفضل ما أسماه محبوه بمرونته الفائقة وإدراكه الواقعي للأمور . 
  • ومن أقواله التي تمثله خير تمثيل قوله : ( رؤوس النعم ثلاثة : أولها نعمة الإسلام التي لا تتم النعمة إلا بها ، وثانيها نعمة العافية لا تطيب الحياة إلا بها ، وثالثها نعمة الغنى التي لا يتم العيش إلا بها ) ..
  • - قصة أبو يوسف مع الرشيد :


  • كان أبو يوسف في صباه فقيراً رث الحال ، وكان استاذه أبو حنيفة يسري عنه وقت فقره و يقول له :( لا يجب أن تغتم ، فإن طال عمرك فستأكل بالفقه اللوز بالفستق المقشور ) ، وقد كان ..
  • ويروي التنوخي في سبب اتصاله بالرشيد فيقول : إنه قدم بغداد بعد موت أبي حنيفة ، ثم حدث أن بعض القواد حنث في يمين ، فطلب فقيهاً يستفتيه فيها ، فجيء بأبي يوسف فأفتاه أنه لم يحنث ..
  • فوهب له دنانير وأخذ له داراً بالقرب منه ، وأتصل به. ثم كان أن دخل القائد يوماً إلى الرشيد فوجده مغموماً ، فلما سأله عن سبب غمه قال : شيء من أمر الدين قد أحزنني ، فاطلب لي فقيهاً أستفتيه ، فجاءه بأبي يوسف ، وإذ دخل أبو يوسف القصر إذا به يری ابناً لهارون محبوساً في حجرة يوميء إليه بإصبعه مستغيثاً ، فلم يفهم عليه ما يريد ، ثم مثل بين يدي الخليفة وسلم . 
  • فسأله الرشيد : ما تقول في إمام شاهد رجلاً يزني ، هل يحده ؟ ففهم أبو يوسف على الفور أن الزاني هو ابن الخليفة المحبوس ، وأن الخليفة يكره أن يوقع عليه الحد ، فقال : لا يوقع الحد عليه لأن النبي قال : ادرؤوا الحدود بالشبهات ، قال الخليفة : وأي شبهة مع المعاينة ؟ أجاب أبو يوسف بقوله : ليس توجب المعاينة لذلك أكثر من العلم بما جرى ، والحكم في الحدود لا يكون بالعلم ، لأن الحد حق الله تعالى ، والإمام مأمور بإقامة الحد ، فكأنه قد صار حقاً له ، وليس لأحد أخذ حقه بعلمه ، وإنما يقع الحد بالاقرار والبينة ..
  • فسجد الرشید حمداً لله ، وأمر لأبي يوسف بمال جزيل طالباً منه أن يلزم القصر ..
  • فما خرج حتى جاءته هدية الفتى الزاني وهدية ثانية من أمه ، ثم ما زال حاله يقوى عند الرشید حتى عينه قاضي القضاة .
  • - خاتمة المقال :


  • هكذا أضحى الشغل الشاغل لمعظم الفقهاء تصيد المناصب ، وتحين فرص الترقي في الوظائف ، وبات سبيلهم إلى ذلك ، التقرب من ذوي السلطان ، وكان أكثر ما يقربهم من السلطان إصدار الفتاوى للخلفاء والأمراء متى أراد هؤلاء الخروج على حكم من أحكام الدين ، أو الأخذ بسياسة لا تقبلها الرعية ، أو الإساءة إلى عدو في الداخل أو الخارج قد استفحل خطره .
  • - وأخيراً: إن كان لديك أي اقتراح أو ملاحظة أو إضافة أو تصحيح خطأ على المقال يرجى التواصل معنا عبر الإيميل التالي: Info@Methaal.com
    لا تنس عزيزي القارئ مشاركة المقال على مواقع التواصل الاجتماعي لتعم الفائدة.
    ودمتم بكل خير.